كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



جوابه: هذا تنبيه على أن العلم باحتياج المحدث إلى المحدث ضروري، فلما كانت هذه المقدمة ضرورية لاجرم حذفها، واستدل بالدليل الدال على حدوث العالم على ثبوت الصانع ولو لم تكن تلك المقدمة بديهية لكان هذا الاستدلال خطأ قطعا.
السؤال السادس: هب أنه ثبت لابراهيم عليه السلام بالدلالة التي ذكرها حدوث الأجسام وثبوت الصانع، ولكن كيف استنتج منها فساد قوله: {هذا ربى} فان من المحتمل أن الكواكب والسموات محدثة مخلوقة لله تعالى، ثم إنها تكون محدثة للبشر، ولما في هذا العالم على ما يذهب إليه المعللون بالوسائط. فإن قلت: كان غرضه من هذا الاستدلال معرفته مقطع الحاجات، فلما عرف أن السموات محدثة عرف أنها ليست مقطع الحاجات. قلت: ليس الأمر كذلك، لأن أول الاستدلال في قوله: {هذا ربى} فكان مطلوبه أن الكوكب هل هو الشيء الذي يربينى ويخلقني؟ فكان المطلوب هذا لا ما ذكرته، وأيضا بتقدير أن يكون الأمر كذلك، فلم قال: {إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والارض} فان بتقدير أن يكون خالقه هو السماء وجب عليه الاشتغال بشكره والاقبال على طاعته.
جوابه: أن إبراهيم عليه السلام كان على مذهبنا في مسألة خلق الافعال، فانه لما عرف أنها محدثة عرف أنها ممكنة وكان من المعلوم أن المصحح لمقدورية الله تعالى هو الامكان، فعرف أن كل ممكن مقدور لله تعالى فانه لا يقع بقدرة غيره فعرف أن كل ممكن خرج من العدم إلى الوجود فلم يخرج إلا به فعلم أن خالقه ومربيه ليس الفلك ولا الملك بل هو الله الواحد القهار.
السؤال السابع: كيف عرف انه فطر السموات فان بقى هاهنا احتمال آخر وهو أن الجسم وإن كان محدثا إلا أن هيولاه قديمة. وعلى هذا التقدير لا يكون هو تعالى فاطرها. ودليل الحركة لا يفيد إلا حدوث الجسم من حيث أنه جسم فأما حدوث الهيولى التي هي جزء ماهية الجسم فلا.
وجوابه: لما عرف حدوث الجسم عرف لا محالة حدوث هيولاه لان هيولاه لو كانت قديمة لكانت في الازل قابلة للصورة، لان قابليتها لها لازمة لماهيتها، ولو حصلت القابلية في الازل لكان المقبول صحيح الوجود، لان القابلية نسبية وإمكان النسب متوقف على إمكان المنتسبين لكن المقبول لما كان ممتنع الوجود في الازل فكانت القابلية كذلك فكان القابل كذلك فكان الكل كذلك.
السؤال الثامن: كلمة {الذى} موضوعة لتعريف المفرد بقضية معلومة فيما قبل وكونه فاطر السموات والأرض لم يكن معلوما قبل ذلك إنما صار معلوما له في تلك الحالة فكيف قال: {للذى فطر السموات}؟
جوابه: أنه لما عرف أن العالم محدث انضمت إليه مقدمة أخرى ضرورية وهى أن كل محدث له محدث، فتولد منهما بأن العالم له صانع فصار علمه بافتقار العالم إلى الصانع علما جليا خاليا عن الشبهات ثم لما عرف وجود الصانع عرف أنه لابد من القيام بشكره والاشتغال بطاعته، فقال بعد ذلك {وجهت وجهى للذى فطر السموات والارض} فكان المعنى: وجهت وجهى إلى ذلك الشيء الذي ظهر في عقلي كونه فاطر السموات والأرض.
السؤال التاسع: انه لم يحتج الا بحركة الكوكب على حدوثه فمن أين حكم بذلك على السموات والأرض بالحدوث والحاجة إلى المحدث؟
جوابه: لما ثبت أن جسما ما محدث فكل جسم محدث لان الأجسام كلها متماثلة، وحكم الشيء حكم مثله، وفى هذا الموضع تنبيه على أنه تعالى ليس بجسم من وجهين:
الأول: أنه لما ثبت حدوث جسم فرع على تلك الدلالة حدوث جسم آخر، وذلك إنما يصح إذا كانت الأجسام كلها متماثلة وذلك ينفى كونه تعالى جسما.
الثاني: أنه تعالى لو كان جسما لقال وجهت وجهى إلى الذى، فلما قال: {للذى} ولم يقل إلى الذى، دل ذلك على أنه تعالى ليس بجسم.
السؤال العاشر: لم قال: {وما أنا من المشركين} وأى دلالة في حدوث الأجسام على نفى الشرك، والظاهر أنه لا يجوز أن يرتب على الدليل ما لا يكون لازما منه.
جوابه: لما عرف حدوث الأجسام عرف أن محدثه قادر وعرف أنه إنما صح منه أن يقدر على مقدور لكون ذلك المقدور ممكنا، فعرف أن الامكان هو المصحح للمقدورية فعرف أنه لو وجد لها آلهان لقدر كل واحد منهما على عين مقدور الآخر لكنه محال، لما أنه يقتضى وقوع مقدور من قادرين من جهة واحدة وهو محال، لأنه يلزم استغناؤه بكل واحد منهما عن كل واحد منهما، ولما كان ذلك باطلا كان القول بحدوث الأجسام نافيا للشرك من هذا الوجه وهذه هي الادلة الدالة على التوحيد المطلق ونفى الاضداد والانداد في الذات والصفات والافعال وهو الله تعالى واحد في ذاته لا شريك له وواحد في صفاته لا نظير له وواحد في الخلق والايجاد لا شبيه له.
السؤال الحادى عشر: لما جن عليه الليل ابتدأ أولا بالنظر في الكواكب، فلم لم يبتدئ بالنظر في نفسه ثم في أحوال هذا العالم من العناصر؟
جوابه: الدليل الدال على حدوث الكواكب دال على حدوث العناصر ولا ينعكس فكان الاشتغال بالاعم اهم.
السؤال الثاني عشر: هب أنه عرف أن للعالم صانعا، ولكن لم اشتغل بعبادته في الحال فقال: {إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والارض}.
جوابه: من قال شكر المنعم واجب عقلا فلا إشكال عليه ومن لم يقل به حمل الآية على العلم دون العمل. وفيه اشكال لان العلم أيضا عمل فقبل السمع أو لم يجز العمل لما جاز لابراهيم هذا العمل.
السؤال الثالث عشر: لم قال: {وجهت وجهى للذى} ولم يقل وجهت قلبى، مع أنه أولى؟
جوابه: هذا يدل على أن الاعتقاد لابد معه في تزكية الروح من العمل لان الاعتقاد أرواح والاعمال قوالب، والكمال لا يحصل إلا باجتماعهما وبالله التوفيق.
السؤال الرابع عشر: لم قدم السموات على الأرض؟
جوابه: أن الاستدلال كان أولا على الكواكب والمجانسة بينها وبين الافلاك أشد ثم بينها وبين العناصر، فلذلك قدم السموات لأنها أشرف وأقوى وأعظم فأشكالها أشرف الإشكال وهو المستدير وألوانها أحسن الالوان وهو المستنير فأجسامها أصلب الأجسام فانها السبع الشداد، وهى محل البركات. ومنها تنزل الخيرات فلما فاقت السفليات في هذه الصفات قدمها في الذكر.
الشبهة الثانية: تمسكوا بقول الله تعالى مخبرا عن إبراهيم لما قال له قومه: {أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا} وإنما عنى بالكبير الصنم وهذا كذب لان ابراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي كسر الاصنام فاضافة كسرها إلى غيره لا يكون الاكذبا.
الجواب: من وجوه:
الأول: أنه كناية عن غير مذكور أي فعله من فعله. و{كبيرهم هذا} ابتداء كلام. وروى عن الكسائي انه كان يقف عند قوله تعالى: {بل فعله} ثم يبتدئ {كبيرهم هذا}.
الثاني: أنه يجوز ان يكون فيه وقف عند قوله تعالى: {كبيرهم هذا فاسألوهم} والمعنى بل فعله كبيرهم وعنى نفسه لان الانسان اكبر من كل صنم.
الثالث: ان يكون في الكلام تقديم وتأخير كأنه قال: بل كبيرهم هذا ان كانوا ينطقون فاسألوهم فيكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطة بكونهم ناطقين، فلما لما يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين.
الرابع: أنه ذكر إلزاما على قولهم، لأنه لما كان هو الاله الاكبر فكسر خدمه المقربين لديه لا يصدر إلا عنه.
الخامس: قرأ بعضهم {فعله كبيرهم هذا} أي فلعله، وعلى هذا لا يكون كذبا لدخول حرف الشك.
الشبهة الثالثة: قوله تعالى مخبرا عن إبراهيم {فنظر نظرة في النجوم فقال إنى سقيم} والاستدلال من وجهين:
الأول: تمسك بعلم النجوم وهو غير لازم.
الثاني: قوله: {إنى سقيم} وهو كذب.
الجواب: قيل: أراد بنظره في النجوم والقمر والشمس حال كونه طالبا لمعرفة الله تعالى. وقوله: {إنى سقيم} أي لست على يقين من الامر. ثم لما استدل بأفولها وغروبها على حدوثها وعرف الله تعالى زال ذلك الشك. وهذا ضعيف لان الله تعالى قال: {وإن من شيعته لابراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون} فدل ظاهر الآية على سلامة قلبه من الشك، ثم ذكر أنه عاتب قومه على عبادة الاصنام. فقال: {ماذا تعبدون} وسمى عبادتهم بأنها إفك وباطل. قال: {ما ظنكم برب العالمين} وهذا قول عارف بالله تعالى. فالمعتمد أن يقول في الجواب عن الوجه الاول: لا نسلم أن النظر في النجوم حرام، وذلك لان من اعتقد أن الله تعالى أجرى العادة أنه مهما حدث فيما بينهما اتصال مخصوص خلق في هذا العالم حادثا مخصوصا واعتقد ان الله تعالى خلق فيها قوى وجعلها أسبابا لحدوث الحوادث في هذا العالم فعلى هذا التقدير لا نسلم ان النظر في النجوم حرام سلمنا كونه حراما، ولكن لعل الله أخبر إبراهيم عليه السلام بأنه مهما طلع النجم الفلاني فانك تمرض. فنظر في النجوم فلما مر به قال إنى سقيم. سلمنا أن ذلك أيضا لم يكن، لكن من المحتمل أنه حين نظر في النجوم تشبها بأهل زمانه في الظاهر وحكم أنه سقيم إيهاما على قومه أنه استدل على ذلك بالنجوم وإن كان الأمر في نفسه ليس كذلك.
وأما الوجه الثاني: فالجواب عنه لا نسلم أنه ما كان سقيما في تلك الساعة الآتية: كما إذا علمت انك ستصير محموما وقت الظهر ثم إن واحدا يدعوك إلى الضيافة بحيث تعلم أنه لابد من الجلوس مع القوم وقت الظهر فتقول إنى محموم، وتعنى به أنى أكون محموما في ذلك الوقت وأيضا لعله لما كان مشرفا على السقم سمى نفسه سقيما كما في قوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} وأيضا أراد إنى سقيم القلب والمراد ما في قلبه من الحزن والغم بسبب كفرهم وعنادهم.
فإن قلت: روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، قوله: إنى سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله لسارة: إنها أختى» قلت: هذا من أخبار الآحاد فلا يعارض الدليل القطعي الذي ذكرناه، ثم إن صح حمل على ما يكون ظاهره الكذب. فأما قوله لسارة: «إنها أختى» فمعناه أنها أختى في الدين، أو نظرا إلى انتسابهما إلى آدم أو إلى سائر الأجداد.
الشبهة الرابعة: تمسكوا بقوله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم} الآية انتقل من دليل إلى دليل. وهذا يدل على عجزه عن نصرة دليله الاول. وأيضا فكان من الواجب عليه دفع ذلك السؤال وإزالة تلك الشبهة فكان الاعراض عنه ذنبا عظيما.
والجواب: أن الدليل واحد لم ينتقل إلى غيره، ولكن انتقل من مثال إلى مثال آخر لعلمه بقصور فهم المخاطب عن إدراكه المقصود من المثال الاول. وذلك لان إبراهيم عليه السلام استدل بحدوث حادث يعلم كل أحد عاقل بالضرورة عجز البشر عنه، وذلك يفيد العلم بوجود الاله تعالى. وهذه القضية الكلية لها جزئيات منها الاحياء والاماتة، ثم إن نمروذ دعا برجلين. فقتل أحدهما ولم يقتل الآخر. فقال عند ذلك: {أنا أحيى وأميت} وكان إبراهيم قادرا على أن يقول: لست أعنى به الاحياء والاماتة بهذا التفسير، وإنما المراد منه شيء آخر لعلم كل أحد بالضرورة عجز البشر عنه، إلا أنه عليه السلام مبالغة في الايضاح عدل عن ذلك المثال إلى آخر وهو طلوع الشمس وغروبها فظهر أنه لم يحصل منه الانتقال من الاستدلال إلى الاستدلال بل من المثال إلى مثال آخر. ثم هاهنا بحث وهو أن الغرض من هذا الاستدلال إما إثبات الاله للعالم ونفى كون نمرود إلها، أو نفى كونه شريكا لله تعالى. فان كان الأول وهو قوله: {إن الله يأتي بالشمس من المشرق} فان ذلك عين المطلوب، وله أن يقول: إن الشمس تطلع إما لذاتها أولا لمؤثر أصلا قما الدليل على أن الأمر ليس كذلك؟ فان البحث ما وقع إلا فيه. وإن كان الغرض هو الثاني وهو أن نمروذ ليس بخالق للعالم فهذا غير جائز لان نمروذ إن جوز ذلك لم يكن كامل العقل، لان العلم بأن هذا الشخص البشرى الذي ما وجد الا في هذه الايام ليس هو الموجد للسموات السبع التي كانت موجودة قبله بألوف ألوف سنين، وأن العلم بأن هذا الشخص العاجز عن التصرف في هذه السموات والكواكب والبر والبحر ليس هو الموجد لها علم ضروري، فمن شك فيها كان مختل العقل، والمناظرة مع هذا الانسان عبث، وبعثة الأنبياء إليه أيضا عبث. وإن كان الغرض هو الثالث، وهو نفى كونه شريكا لله تعالى، فان كان المراد من الشركة في خالقية السموات والأرض كان أيضا معلوم الفساد بالضرورة فكانت المناظرة فيها عبثا. وإن كان المراد من الشركة الطاعة بمعنى أن نمروذ كان يدعى أنه يجب عليهم طاعته كما يجب طاعة الله. فهذا مما لا يبطل بالحجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام.
سؤال آخر: وهو ان ابراهيم عليه السلام لما قال: {ان الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} فلو قال الخصم: بل أنا آتى بالشمس من المشرق فقل لالهك جئ بها من المغرب كيف يكون جوابه؟
الجواب: عن البحث الأول أن الخصم كان دهريا منكرا للصانع فاحتج ابراهيم عليه السلام بهذه الحجة في إثبات الصانع وذلك لان طلوع الشمس بعد عدمها حادث فلابد من محدث والمحدث ليس احدا من البشر فلابد لهذه الأجسام من اله.
واعلم أنه إنما انتقل عن الاحياء والاماتة إلى طلوع الشمس وغروبها لان أشرف ما في العالم السفلى هو الانسان وأشرف ما في العالم العلوى هو الشمس، فذكر من دلائل الآفاق أحوال الشمس، ومن دلائل الانفس احوال الحياة والموت.
والجواب عن البحث الثاني: أن الخصم لو طالبه بذلك لكان من الواجب في حكم الله تعالى أن يأتي بالشمس من المغرب تقريرا لحجة ابراهيم عليه السلام.
ولقائل أن يقول: هذا غير واجب. لان لابراهيم عليه السلام أن يقول: طلوع الشمس حادث، فلابد له من محدث. وذلك المحدث ليس من البشر، فلابد من آله. فثبت أن طلوع الشمس إنما حدث بقدرة الله تعالى. ومن المعلوم بالضرورة أن القادر على تحريك الشمس من اليمين إلى الشمال قادر على تحريكها من الشمال إلى اليمين. فلما كان الله تعالى قادرا على أن يأتي بالشمس من المشرق كان قادرا على أن يأتي بها أيضا من المغرب. فثبت أن الهى قادر على الكل. وأما أنت فلو كنت إلها لكنت أيضا قادرا على الكل فلما عجزت عن الكل ثبت أنك لست بآله. ومتى اندفعت معارضة الخصم بهذه الادلة العقلية لم يلزم من عدم اتيان الله تعالى بالشمس من المغرب القدح في دليل ابراهيم عليه السلام.